لماذا تبدأ الفلسفة مع طاليس
درج أغلب مؤرخي الفلسفة على تأكيد القول أن الفلسفة بدأت مع طاليس، ورغم أن ما قاله طاليس من "أن الماء هو أصل الوجود" لم يكُن من بناة أفكاره وأصيل إبداعه، فلك في تراث الأقدمين في وادي الرافدين وعند قُدماء المصريين تفسيرات لأصل الوجود على أن الماء، والأمر ذاته ذكره الهندوسيون، وباقي حضارات الشرق، وهو ذات الأمر الذي جعل كثير من المفكرين يذهبون إلى القول بأصالة الشرق وفضله على اليونان والغرب، مثل "توملين" و"صوموئيل كريمر" و"سارتون" و"برنال" بما يُظهر أسبقية الشرق على الغرب في جدية السعي والبحث عن أصل واحد للوجود، أو مُسبب الأسباب، وتحول المادة لحالاتها الثلاث، السائلة والغازية والصلبة، ولكل هذه الرؤى تجذير وتأصيل في الفكر الشرقي القديم، ولكن ما ميَز طاليس، هو منهجه وأسلوب تفكيره الذي تجاوز فيه دائرة الثقافة الأسطورية المُهيمنة على الفكر الشرقي القديم بوصفها بنية أساسية شكلت كل علاقات الحضور والغياب في الوجود.
مع طاليس بدأ تاريخ فكر جديد هو تاريخ بداية مُغادرة الوعي الأسطوري للبحث عن بنية تفسيرية جديدة للوجود، أساسها الملاحظة الحسية والتجربة العملية في الوصول للقول بوجود علة أولى للموجودات، فيها قدرة كامنة للتحول التدريجي في ضوء تصوراتنا الشائعة عن حالات المادة. إنه الماء، فهو مبدأ الحياة، فأخرج بذلك طاليس مُجمل التصور الإنساني ومُجمل موقف الإنسان إزاء الطبيعة من دائرة الثقافة الأسطورية إلى دائرة النظر الحسي التجريبي ضمن حدود الضوابط المنطقية وأحكام العقل: واضعاً أساساً لفلسفة طبيعية غير ميتافيزيقية وغير إسطورية وغير لا هوتية ودينامكي لا يُميز الطاقة من المادة. وهذه التصورات هي التي جعلت جُل كُتاب تواريخ الفلسفة يؤرخون لبداية الفلسفة مع طاليس، لأنه:
1ـ لم يتوجه بالسؤال والبحث عن العُنصر المُشترك ومبدأ الحياة.
2ـ إنه أرجع التغيير والتبدل والصيرورة والتكوين والنمو والإندثار وكل حوادث الطبيعة إلى أحد موجوداتها وهو الماء.
3ـ إنه لم يبحث عن علل وأسباب مُباينة للمحسوس ومُفارقة للمادي فيتخذ منها أسباب وجود ومكبادئ تحريك هذا العالم.
4ـ إنه لم يتحدث عن موجودات هذا العالم وخروجها إلى الوجود بواسطة الصراع بين الآلهة أو بواسطة التزاوج بينها، فإنجاب الموجودات ولم يُرجع مبادئ التحريك والحركة والحياة إلى قوة أسطورية.
5ـ إنه لم يُرجع أسباب وجود الموجودات وعلل أحداث الطبيعة إلى قوة وإرادة إلهية.
6ـ إنه لم يبحث عن مبادئ التحريك المادي في طاقة مُنفصلة عن الأشياء...ذلك لأن كل الموجودات عنده مُفعمة بالأرواح..أي مظان الحرك = الطاقة عنده هي الأصل.
أما لماذا إختار طاليس الماء كي يكون هو علة الوجود وأصل الموجودات، فهو أمر مُرتبط بعدة أمور، أهمها:
أـ أن المُعتقد الفلكي السائد عند الأغريق أيام طاليس وما قبله، هو النظر للأرض على أنها قرص مُتولد من الماء، وأن الشمس تتولد كل صباح في الماء وتخرج منه لتغيب كل مساء مُنطفئة في الماء.
ب ـ مرونة الماء وتعاقب الحالات الثلاث للمادة عليه.
ج ـ تجذر الرواية الأسطورية لقيمة الماء في الحضارات القديمة، ما قبل الحضارة اليونانية، وأهمها العراقية والمصرية والهندية.
ومع ذلك يرى مدني صالح أن البداية في الدرس الفلسفي بمعنى الفلسفة على أنه "حُب الحكمة" وأن طاليس إعتقد بأن الماء هو أصل كل الأشياء، هي بداية "هازلة" "ليس فيها من وقار الفلاسفة ورصانة العُلماء ما يستوقف إهتمام طالب معرفة، فكل بداية بالفلسفة للعلم، ولا ترقى بالعلم إلى أي من الفلسفات" فهي بداية خائبة.
د. علي المرهج – استاذ فلسفة
...............
ـ بوحي وتصرف غير مخل من رؤى أستاذ الفلسفة الكبير "مدني صالح": مقالات في الدرس الفلسفي، إعداد وتحرير د.محمد فاضل، بيروت، ط1، 2016، مقال "من قضية بداية الفلسفة إلى مناهج ىتدريسها"، ص17ـ 21.