لماذا قال تعالي واذا البحار سجرت
قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [سورة التكوير:6]، روى ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: قال علي لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقاً، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [سورة الطور:6]، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ.
هذا الأثر مبناه على أن التسجير بمعنى الإيقاد، أنها تستعر وتضطرم بالنار، بصرف النظر عن موضع النار، فإن النار موجودة ومخلوقة الآن، وليست هي هذا البحر، فالنبي ﷺ رأى النار، ولما خلق الله النار أيضاً بعث إليها جبريل ونظر إليها، كما في الحديث المعروف، وكذلك أيضاً النبي ﷺ رأى أقواماً يعذبون في النار، وأخبر عن حال عمرو بن لحي، والمرأة التي حبست في هرة، فالنار ليست هي هذا البحر إذا سُعر، وإنما هي مخلوقة وموجودة الآن، وهي أعظم من الأرض ومن البحر، ولا يمكن أن تقاس النار بحجم الأرض، بدليل أن الشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار.
وأهل الفلك يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بمئات الأضعاف، فكيف يقال: إن النار في البحر، وهو جزء من الأرض في أقصى حالاته قد لا يجاوز ثلاثة أرباع حجم مساحة الكرة الأرضية؟!
فنأخذ من هذا الأثر معنى: سُعرت، أوقدت، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، السجر يقال في اللغة لثلاثة معانٍ، والسلف ينبغي أن نقدر أقوالهم، وأن ندرك في الوقت نفسه أن هؤلاء أهل لغة، فلا نلغي أقوالهم، ونهدرها مسارعين في استبعادها مع أنهم أهل لغة، فننظر في عباراتهم.
فمادة السجر تقال لثلاثة معانٍ، الأول: الامتلاء والسيلان، والمعنى الثاني: الذي هو الإيقاد، سنلاحظ عبارات السلف والثالث: اليبس، أما المعنى الأول الذي هو الامتلاء والسيلان فهذا لا يزال موجوداً إلى اليوم يستعمله الناس، تقول: الماء يَسجر، يعني امتلأ وسال، صار يفيض ويسيل، ومن كلمات العامة التي يستعملونها في الدعاء إلى اليوم ولربما المرأة تدعو على صغيرها إذا لوث المكان ببوله -أعزكم الله- فتقول: "فَرَنْج يَسْجر"، دعوة معروفة عند العوام، يعنون: مرض الزهري، يسمونه السيلان، والعوام ما يعرفون هذا الكلام، لكون الأمراض الجنسية عرفت من الغرب، ولم تكن معروفة عند المسلمين، وانتقلت من الغرب إلى المسلمين.
الحسن يقول: سُجِّرَتْ يبست، وقتادة يقول: ذهب ماؤها، والفراء يقول: مُلئت وهذا القول قال به جماعة من السلف كالربيع والكلبي ومقاتل، وهو أيضاً مروي عن الحسن والضحاك، يعني: ملئت.