تفسير سورة سبأ من 10 إلى 13:
يا جِبالُ} إمّا أن يكون بدلا من فَضْلًا، وإمّا {من آتَيْنا} بتقدير: قولنا يا جبال أو: قلنا يا جبال. وقرئ: {أوّبى} و {أوبى} من التأويب. والأوب: أي رجعي معه التسبيح.
أو ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه، لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه: ومعنى تسبيح الجبال: أنّ اللّه سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح: معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. وقرئ: {والطير} رفعا ونصبا، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولا معه، وأن يعطف على فضلا، بمعنى وسخرنا له الطير. فإن قلت: أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} تأويب الجبال معه والطير؟
قلت: كم بينهما. ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى: من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا: إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وجعلناه له لينا كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة. وقيل: لان الحديد في يده لما أوتى من شدّة القوّة. وقرئ صابغات، وهي الدروع الواسعة الضافية، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح. وقيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدّق على الفقراء. وقيل: كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا، فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟
فيثنون عليه، فقيض اللّه له ملكا في صورة آدمى فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود، فسأله؟ فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع وَقَدِّرْ لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق، ولا غلاظا فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع وَاعْمَلُوا الضمير لداود وأهله {وَسخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} فيمن نصب: ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع، وكذلك فيمن قرأ: {الرياح} بالرفع {غُدُوُّها شَهْرٌ} جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ: {غدوتها} {وروحتها} وعن الحسن رضى اللّه عنه: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأى مكتوبا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء اللّه. القطر: النحاس المذاب من القطران. فإن قلت: ماذا أراد بعين القطر؟ قلت: أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وقيل: كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ} ومن يعدل {عَنْ أَمْرِنا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرئ. {يزغ} من أزاغه. وعذاب السعير: عذاب الآخرة، عن ابن عباس رضى اللّه عنهما وعن السدى: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى.
المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال: سميت محاريب لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد. والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب، وعن أبى العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها، لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرءوس. وروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى: الحياض الكبار، قال:
تروح على آل المحلّق جفنة ** كجابية السّيح العراقىّ تفهق
لأنّ الماء يجبى فيها، أي: يجمع. جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة. قيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ}.
{راسِياتٍ} ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ} حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب شُكْرًا على أنه مفعول له، أي: اعملوا للّه واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال، أى: شاكرين. أو على تقدير اشكروا شكرا، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولا به. ومعناه: إنا سخرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة الشَّكُورُ المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه: قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادا واعترافا وكدحا، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى. وعن عمر رضى اللّه عنه أنه سمع رجلا يقول: اللهم اجعلنى من القليل، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنى سمعت اللّه يقول {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر.