آلام الإستشهاد وآلام الكفارة
ذكرنا فيما سلف أن المسيح احتمل على الصليب نوعين من الآلام، هما آلام الإستشهاد وآلام الكفارة. ونظراً لأن كثيرين يعتبرون الاثنين آلاماً واحدة، رأينا من الواجب أن نتحدث فيما يلي عن كل منهما على حدة:
أولاً - آلام الإستشهاد
إن آلام الإستشهاد التي قاساها المسيح، لم تكن تشمل آلاماً جسدية فحسب، بل وآلاماً نفسية أيضاً، كما يتضح مما يلي:
1 - الآلام الجسدية: (ا) ففي دار حنان طفحت روح البغضة والقسوة في أحد الخدام، فصفع المسيح بكل ما لديه من قوة. وفي بيت قيافا انقضّ عليه الخدام وجنود الهيكل وأفرغوا كل ما في جعبتهم من حقد ضده، فلكمه البعض، ولطمه البعض الآخر، وضربه بالعصي بعض غيرهم.
(ب) وفي دار الولاية انتهز جند الرومان وجود شخص يهودي بين أيديهم قال إنه ملك، فخلعوا عنه ثيابه وقيدوا يديه بالأغلال. ثم أحنوا ظهره وربطوه إلى أحد الأعمدة، وطفقوا يجلدونه بكل قواهم. وكانت آلة الجلد تتكون وقتئذٍ من تسعة سيور، في كل منها سبع قطع من المعادن غير المصقولة. وكان الضرب بها يقع على الظهر، وأحياناً على الرأس أو الوجه، فكان اللحم يتناثر وتغوص قطع المعادن في الجروح، فيتدفق الدم بغزارة منها، كما كانت تتقطع الأعصاب وتصاب العظام بخدوش متعددة. لذلك كان المسيح يتألم ولا شك آلاماً مبرحة. ولو كان إنساناً عادياً لكان قد مات وقتئذ، كما كان يموت كثير من البشر. وبعد ذلك وضعوا إكليلاً من الشوك على رأس المسيح وضربوه بالقصبة عليها، فانغرس الشوك فيها وتفجرت الدماء منها، وأخذت تسيل على وجهه من نواح متعددة.
(ج) وأخيراً طرحوه على الصليب المعدّ له، ثم شدوا يديه بكل عنف على عارضتيه، ودقوا في كل منهما مسماراً غليظاً بمطرقتهم، وكأن المسيح قُدّ من صخر لا يشعر أو يحس. فراح المسماران يخترقان الجلد واللحم والعروق والأعصاب والعظام، حتى نفذا في عارضتي الصليب وتمكنا فيهما. ثم وضعوا إحدى قدميه على الأخرى، وبمسمار أطول من المسمارين السابقين سمروهما معاً حتى نفذ المسمار في قائم الصليب وتمكن فيه أيضاً. ثم رفعوا الصليب وأسقطوه في حفرة ليثبتوه فيها، فاضطربت أعصاب المسيح اضطراباً عظيماً. وهناك تركوه تحت حرارة الشمس اللافحة حتى يبست مثل شقفة قوته ولصق لسانه بحنكه، واستبد به العطش (مزمور 22: 15).
فالصليب كما قال شيشرون هو أخس وأقسى العقوبات، وكان لا ينفذ إلا في أشر المجرمين وألد الأعداء، وذلك لكي تطول مدة عذابهم. لذلك كان كل من يُصلب من البشر يتمنى الموت بأقصى سرعة، لكن هيهات أن تتحقق أمنيته. ومن ثم كان يرزح تحت آلامه المبرحة يوماً أو أكثر من يوم، حتى يقبل إليه الموت وينقذه . وكان اليهود يريدون أن يكون هذا هو الحال مع المسيح، لكن خاب أملهم، فقد مات بعد سويعات قليلة من صلبه للأسباب السابق ذكرها.
2 - الآلام النفسية: (ا) فقد خانه يهوذا الإسخريوطي على الرغم من أن المسيح كان يودع لديه كل ما يرد إليه من مال، فضلاً عن ذلك كان قد سمح له منذ ساعات قليلة بالأكل معه في صحفة واحدة. وأنكره بطرس مقدام التلاميذ على الرغم من أن المسيح كان قد خصه بامتيازات متعددة وأسدى إليه وإلى عائلته معروفاً عظيماً. ولم يقف بطرس عند حد الإنكار، بل أخذ يلعن ويحلف أنه لا يعرف المسيح. أما باقي التلاميذ فتركوه وهربوا على الرغم من أنهم أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه، وكان قد قضى حياته بأسرها في تعليمهم وإرشادهم والعناية بهم.
(ب) وفي جثسيماني أقبل اليهود عليه بسيوف وعصي كأنه لص يسطو على البيوت أو مجرم يفتك بالناس. ثم أوثقوه كما يُوثَق العبيد والمجرمون، وفي عنف ساقوه إلى حنّان ثم إلى قيافا، وأخذوا يبصقون عليه كأنه أحقر الناس وأدنأهم. وفي سخرية لاذعة كانوا يغطون وجهه الكريم، ثم يضربونه ويقولون له: تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟! .
وبعد أن استقر رأيهم على صلبه، ساقوه وسط مظاهر الهزء والتهكم إلى بيلاطس ووقفوا يشتكون عليه ويكيلون له التهم وراء التهم، وقد نسوا أو تناسوا أنهم نالوا أو نال ذووهم خيراً جزيلاً، كما أنه كان في ذاته أطهر وأقدس من عاش على الأرض بأسرها.
(ج) وعندما وقف أمام هيرودس استهزأ الجنود به وسخروا منه، كما ألبسوه لباساً براقاً متهكمين ومحتقرين إياه. ولما عادوا به إلى دار الولاية لكي يستأنف بيلاطس الوالي محاكمته، فضَّل رؤساء الكهنة (الذين كانوا يمسكون كتاب الله في أيديهم) باراباس السفاح على المسيح، فطلبوا من بيلاطس إطلاق سراح الأول وصلب الثاني. فأذعن لهم وخضع لمشيئتهم خوفاً على وظيفته من الضياع، مع أنه كان يجمع في يده كل السلطة في البلاد، وكان قد أقيم لصيانة العدالة وحمايتها من عبث العابثين.
(د) وفي دار الولاية أخذه جند الرومان وجمعوا عليه الكتيبة بأسرها، ثم أوثقوه في وسطهم واتخذوا منه ألعوبة (أو أضحوكة) لهم، إذ أقاموا له حفلة تتويج هزلية خلعوا عنه فيها ثيابه العادية وألبسوه رداء قرمزياً (ربما كانت عباءة مهلهلة ألقاها أحد الكبراء عنه منذ زمن طويل، فأخذها جندي منهم)، ثم ضفروا إكليلاً من عوسج وشوك ووضعوه على رأسه بلطف أو عنف، كما جعلوا قصبة في يمينه عوضاً عن الصولجان، لكي يجعلوا منه صورة ممسوخة لأحد الملوك. ثم في استهزاء لاذع طفقوا يجثون قدامه قائلين السلام يا ملك اليهود!! . وأخيراً انتزعوا منه القصبة التي أعطوها له، وضربوه بها على رأسه ضربة قاسية، إمعاناً في إهانته.
(ه) وعندما كان معلقاً على الصليب كان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهّزون رؤوسهم ويتطلعون إليه من أعلى إلى أسفل بكل ازدراء واحتقار قائلين له: إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب ، غير عالمين إنه قَبِل الصلب باختياره لكي يكفر عن خطاياهم وخطايا غيرهم من البشر. وأن المعجزة التي أراد أن يقدمها للبشرية ليست النزول عن الصليب، بل القيامة من بين الأموات بعد إتمام عمل الفداء...
ولو فرضنا جدلاً أنه نزل عن الصليب كما طلبوا، لما كانوا قد آمنوا أنه ابن الله، بل لقالوا إن به شيطاناً، كما قالوا عنه عندما كان يعمل بعض معجزاته فيما سلف. لأن السبب الحقيقي في عدم إيمانهم لم يكن راجعاً إلى حاجتهم إلى برهان على نبوة المسيح الفريدة لله. بل إلى عمى بصائرهم، فكانوا يرون الحق باطلاً والباطل حقاً.
ولقد احتمل المسيح الآلام الجسدية والنفسية السابق ذكرها، وكانت على نفسه أقسى مما نفتكر أو نتصور، وذلك لسببين (الأول) أنه كان سليم البنية، فلم يقترب إليه يوماً مرض يوجعه أو أذى يؤلمه، فيتعلم الصبر والإحتمال. كما كان سليم النفس فلم يتبلّد مرة إحساسه أو تحجّرت عواطفه أو عرف للإهانة معنى أو للإذعان مذاقاً.
(الثاني) كما قد أحب الناس فقابلوا محبته بالبغضة والعداوة، وأحسن إليهم فقابلوا إحسانه بالتمرد والعصيان - وهو لكماله المطلق يؤلمه الجحود ونكران الجميل، وتدميه الخسة والدناءة - ومع كل فهذه الآلام لم تكن كما ذكرنا، إلا آلام الإستشهاد التي كان يحتملها الشهداء القديسون (وإن كانت بدرجات متفاوتة) بكل فرح وابتهاج. ولذلك ليس من المعقول أنها كانت السبب في الحزن العميق الذي بدا من المسيح في جثسيماني، ولا في الصرخة الداوية التي انطلقت من فمه وهو معلق على الصليب.
ثانياً - آلام الكفارة
هي الآلام غير المنظورة التي احتملها المسيح في نفسه نيابة عن البشر بسبب خطاياهم ومعاصيهم، فسيف العدالة الإلهية كان عتيداً أن يهوى عليهم جميعاً، لكن المسيح قبله في نفسه نيابة عنهم رحمة بهم وشفقة عليهم. فتمت فيه النبوة التي قيلت عنه قبل ذلك بأكثر من خمس مائة سنة استيقظ يا سيف على راعيّ، وعلى رجل رفقتي. أضرب الراعي (زكريا 13: 7) عوضاً عن الرعية التي تستحق الضرب والعقاب - وآلام الكفارة هذه لا قدرة لنا على الإحاطة بهولها أو قسوتها، لكن لكي نعرف شيئاً نتأمل في النقاط الآتية:
1 - وجود المسيح في مركز الخطاة: إن المسيح بسبب نيابته عنا على الصليب، اعتبر في نظر العدالة الإلهية كالأثيم، فقد قال الوحي عنه وأُحصي مع أثمة (إشعياء 53: 12)، كما اعتبرت خطايانا بكل فحشها ودنسها كأنها خطاياه الشخصية. وقد رأى داود النبي هذه الحقيقة منذ القديم فقال بلسان المسيح: حماقتي وذنوبي (مزمور 69: 5)، مع أنه لم يرتكب خطيئة أو اقترف إثماً. وإذا كان الإنسان النبيل، مع كونه خاطئاً بطبيعته، يتألم ألماً شديداً عندما ينسب إليه إثم ارتكبه غيره، فلا ريب أن المسيح كان يتألم في نفسه على الصليب آلاماً لا حد لها. لأنه وهو القدوس البار قد وضعت عليه كل آثامنا، وأصبح بذلك ليس كمجرد أثيم، بل كما لو كان هو كل الأثمة حاملين آثامهم ومعاصيهم معهم، بل أصبح كما لو كان هو ذات الخطيئة التي أفسدت العالم بأسره وتعدت على حق الله وناموسه. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال عن الله إنه جعل الذي لم يعرف خطيئة (وهو المسيح)، خطيئة لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه (2 كورنثوس 5: 21).
2 - قبوله عار الخطيئة: ولوجود المسيح في مركز النائب عن الخطاة أخذ على نفسه عارهم أو بالحري عار خطاياهم، وعار الخطيئة ليس بعده عار. فقد قال الوحي: عار الشعوب الخطية (أمثال 14: 34). وقد أحس المسيح بهذا العار بدرجة لا نستطيع تصّوُرها، لأن إحساس القدوس البار بعار الخطيئة أدق بدرجة لا حد لها من إحساس الإنسان المولود بها والعائش فيها. وقد رأى داود النبي بروح النبوة العار الذي أحس به المسيح عندما كان معلقاً على الصليب، فقال عن لسانه قبل مجيئه إلى الأرض: العار قد كسر قلبي فمرضت (مزمور 69: 20) - لأن هذا العار هو الذي حطم قلب المسيح المنطوي على أسمى العواطف وأقدسها، وأحنى رأسه العالية المشبعة بأرقى المبادئ وأطهرها، فاعتراه، أو بالحري اعترت نفسه، المرض. ومرض النفس أشر مرض في الوجود، لأنه أثقل الأمراض وأسرعها فتكاً بالإنسان.
3 - احتماله عذاب الخطيئة: نظراً لأن الخطيئة لا تجلب على فاعلها العار فحسب بل والعذاب أيضاً، لذلك كان من البديهي وقد قبل المسيح أن يكون نائباً عنا، أن يحتمل عذاب الخطيئة أيضاً، وعذاب الخطيئة ليس بعده عذاب، فهو جهنم بآلامها النفسية ونيران العدالة الإلهية. وقد رأى داود النبي بروح النبوة تأثير هذا العذاب على نفس المسيح، فقال عن لسانه قبل مجيئه إلى العالم كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي. يبسَتْ مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي (مزمور 22: 14 - 15).
4 - حلول لعنة الخطيئة عليه: والخطيئة لا تجلب العار والعذاب فقط، بل واللعنة أيضاً، فقد قال الوحي: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به (غلاطية 3: 10)، ولذلك كان من الواجب أن يحمل الفادي ليس عار الخطيئة وعذابها فقط، بل ولعنتها كذلك. فهل قبل المسيح لعنة الخطيئة مع الآلام التي قبلها عوضاً عنا؟ إننا نجيب والدمع يترقرق في مآقينا، والقلم يبطئ السير في أيدينا: نعم . فقد قال الوحي المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا (غلاطية 3: 13) فهو تبارك اسمه بسبب قبوله خطايانا على نفسه حباً بنا وعطفاً علينا، لم يحسب ملعوناً فقط، بل ولعنة أيضاً، وذلك لكي يرفع لعنة الخطيئة عنا، ويجلب إلينا البركة عوضاً عنها.
هذا شيء من آلام الكفارة، ونحن لا نستطيع أن نكتب عنها أكثر مما كتبنا. فليس سوى الله والمسيح يعرفان قدرها وشناعتها، لأن الأول هو الذي يعرف مطالب عدالته التي لا حد لها، والثاني هو الذي قام بإيفاء هذه المطالب في ناسوته إلى التمام. لكن مما لا شك فيه، أنه لو كانت آلام الكفارة قد تحولت ناراً مادية والتهمت جسد المسيح التهاماً، لكان ذلك أهون عليه كثيراً من تحمل الآلام المذكورة، لأنها كانت تستعر في جسده ونفسه وروحه، معذبة إياه وهي مبقية عليه، طوال ساعات الظلمة التي اجتاز فيها على الصليب.
أخيراً نقول: إن الكفارة التي تحدثنا عنها كثيراً لم تكن عملاً آلياً خارجياً كان من الواجب إتمامه قبل أن يتمكن الله من الصفح عنا وتقريبنا إليه (كما يظن بعض الناس)، بل إنه عمل صادر من نفس طبيعته تعالى. لذلك خشية أن يُساء فهم معنى الكفارة نقول: لولا تكفير الله بنفسه عن خطايانا في المسيح، لما حصلنا على الخلاص معناها: لولا أن الله يستطيع في محبة لا حد لها أن يحتمل خطايانا بكل دنسها وشناعتها، ويرضى أن يقربنا إليه على الرغم من قصورنا الذاتي، لما خلصنا على الإطلاق. لذلك فإن ظهوره لنا في المسيح للقيام بهاتين الخدمتين، لم يكن عملاً خارجياً قام به ليتمكن من أداء أمر لا تقدر طبيعته أن تعمله، بل بالعكس إنه عمل نابع من طبيعته نفسها.
فالله بسبب محبته الشديدة للبشر، لم يقض عليهم بسبب خطاياهم، بل تأنى عليهم سنين عديدة. وعندما كان يطفح شر جماعة منهم، كان يصيبها بطوفان أو نار أو وباء، تأديباً لها حتى تتوب عن شرها. ولكن لما أتى الوقت المعين منه تعالى، وكانت نفوس المخلصين من البشر، قد تاقت إلى الخلاص من الخطيئة ونتائجها، ورأت عجزها التام عن الحصول عليه بكل قدراتها، ظهر لنا في المسيح وقبل في نفسه كل شرورنا وآثامنا، عوضاً عن أن يردها على رؤوسنا ويوقع علينا جميعاً الدينونة الأبدية بسببها. أما لو كان المسيح قد تجنب الصلب، أو سمح لتلاميذه باستخدام السيف، أو استدعى الملائكة للدفاع عنه، وكل ذلك كان ميسوراً لديه كما ذكرنا، لظلت خطايانا سائدة علينا رافعة عقيرتها متحدية محبة الله ورحمته. أما الآن فقد انتصرت محبة الله ورحمته على خطايانا انتصاراً تاماً، ومن ثم صار لكل من يؤمن منا إيماناً حقيقياً، امتياز الحصول على الصفح والغفران إلى أبد الآباد، كما يتضح من الباب السابع.
فموت المسيح كفارة هو إذاً أكبر خدمة قام بها لأجلنا، لأنه لو كان قد عاش لغاية الآن، يعلم الناس ويطعم الجياع ويشفي المرضى ويقيم الموتى، دون أن يكفر عن خطايانا، لكانت هذه الخدمات مع سموها وفائدتها، لا تخلصنا من دينونة خطايانا أو تؤهلنا للوجود مع الله والتوافق معه. فكنا نقضي حياتنا في شقاء أبدي.