494 مشاهدة
تفسير سورة هود لسيد قطب
بواسطة

1 إجابة واحدة

0 تصويت
هود

من الاية 1 الى الاية 2

الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)

والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول [ ص ] بما كان من الاختلاف على موسى من قبل . وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه , وعدم الركون إلى الذين ظلموا [ أي أشركوا ] والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة . . وتتوارد الآيات هكذا: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه , ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم , وإنهم لفي شك منه مريب [ 110 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم , إنه بما يعملون خبير [ 111 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا , إنه بما تعملون بصير [ 112 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار , وما لكم من دون الله من أولياء , ثم لا تنصرون [ 113 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل , إن الحسنات يذهبن السيئات , ذلك ذكرى للذاكرين [ 114 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ 115 ] . . وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي , موضوعا وجوا وعبارة . .

لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس . ونزلت يونس بعد الإسراء . وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها ; وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة . فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة ; وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب - وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته , واستهزاء المشركين به , وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله - مع وحشة رسول الله [ ص ] من خديجة - رضي الله عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ; وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها ; وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها . . وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية . .

قال ابن إسحاق:ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد , فتتابعت على رسول الله [ ص ] المصائب بهلك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - وبهلك عمه أبي طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره , ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ ص ] من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب , حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش , فنثر على رأسه ترابا .

قال ابن إسحاق:فحدثني هشام بن عروة , عن أبيه عروة بن الزبير , قال:لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله [ ص ] ذلك التراب , دخل رسول الله [ ص ] بيته والتراب على رأسه , فقامت إليه إحدى بناته , فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي . ورسول الله [ ص ] يقول لها:" لاتبكي يا بنية , فإن الله مانع أباك " قال:ويقول بين ذلك:" ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " .

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع:فعظمت المصيبة على رسول الله [ ص ] بموتهما وسماه "عام الحزن" وقال:" ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره .

ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها , وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحملطابع هذه الفترة ; وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .

وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله [ ص ] والذين معه على الحق ; والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي .

وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها:

فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله , من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة:هي الدينونة لله وحده بلا شريك , والعبودية له وحده بلا منازع ; والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ . مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء ; وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة ; وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء .

ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). . أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهوSadألا تعبدوا إلا الله , إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله , وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير). . .

ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق . . لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهمSadولقد أرسلنا نوحا إلى قومه , إني لكم نذير مبين . أن لا تعبدوا إلا الله , إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم). . (وإلى عاد أخاهم هودا قال:يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني , أفلا تعقلون ? ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه , يرسل السماء عليكم مدرارا , ويزدكم قوة إلى قوتكم . . ولا تتولوا مجرمين). . (وإلى ثمود أخاهم صالحا , قال:يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره , هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها , فاستغفروه ثم توبوا إليه , إن ربي قريب مجيب). . (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال . يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , ولا تنقصوا المكيال والميزان , إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط . ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط , ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ). .

فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة . .

ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب , والسخرية والاستهزاء , والتهديد والإيذاء , بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق , وفي نصر الله الذي لا شك آت ; ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم , بالتدمير على المكذبين , وبالنجاة للمؤمنين:

ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه:ما نراك إلا بشرا مثلنا , وما نراك)(اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي , وما نرى لكم علينا من فضل , بل نظنكم كاذبين . . قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم , أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? ويا قوم لا أسألكم عليه مالا , إن أجري إلا على الله , وما أنا بطارد الذين آمنوا , إنهم ملاقو ربهم . ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ? أفلا تذكرون ? ولا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , ولا أقول:إني ملك , ولا أقول للذين تزدري أعينكم:لن يؤتيهم الله خيرا , الله أعلم بما في أنفسهم , إني إذن لمن الظالمين . قالوا:يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا , فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال:إنما يأتيكم به الله - إن شاء - وما أنتم بمعجزين). . ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين .

وفي قصة هود نجد هذا المشهدSadقالوا:يا هود ما جئتنا ببينة , وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك , وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول:إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . قال:إني أشهد الله , واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه , فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم , فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم , ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ). . ثم تجيء العاقبةSadولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ . وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله , واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة , ألا إن عادا كفروا ربهم , ألا بعدا لعاد قوم هود !).

وفي قصة صالح نجد هذا المشهدSadقالوا:يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا , أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ? وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب . قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير). . ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ , إن ربك هو القوي العزيز , وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها , ألا إن ثمود كفروا ربهم , ألا بعدا لثمود ! . .

وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد: قالوا:يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ? إنك لأنت الحليم الرشيد ! قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه , إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت , وما توفيقي إلا بالله , عليه توكلت وإليه أنيب . ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح , وما قوم لوط منكم ببعيد . واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه , إن ربي رحيم ودود . قالوا:يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول , وإنا لنراك فينا ضعيفا , ولولا رهطك لرجمناك , وما أنت علينا بعزيز . قال:يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ? إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل , سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب , وارتقبوا إني معكم رقيب . . ثم تجيء الخاتمةSadولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا , وأخذت الذين ظلموا الصيحة , فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها , ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود !). .

ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله [ ص ] إلى دلالته:والتسريةعنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله ; وبما أولاهم الله من رعايته ونصره ; وتوجيهه [ ص ] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به . . وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة .

فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيبSadتلك من أنباء الغيب نوحيها إليك , ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا , فاصبر , إن العاقبة للمتقين).

وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورةSadذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم , فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك , وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة , إن أخذه أليم شديد). . . (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ; ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم , وإنهم لفي شك منه مريب . وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم , إنه بما يعملون خبير . فاستقم كما أمرت ومن تاب معك , ولا تطغوا , إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار , وما لكم من دون الله من أولياء , ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل , إن الحسنات يذهبن السيئات , ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). . .(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك , وجاءك في هذه الحق , وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون:اعملوا على مكانتكم إنا عاملون . وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السماوات والأرض , وإليه يرجع الأمر كله , فاعبده , وتوكل عليه , وما ربك بغافل عما تعملون). .

وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني ? وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافيء للموقف ; وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة , شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ; ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها , متوافيا مع أهدافها , مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية .

ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر:

"ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين , في الموضوع , وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها ; وتفند هذه الجاهلية , عقيدة وشعورا , وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض , وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع , وسرعة وقوة في النبض , ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي , ونبض هادئ , وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة , وملامحها المميزة , بعد كل هذا التشابه والاختلاف" . .

فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة:

إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل . . إشارة إلى قصة نوح , وإشارة إلى الرسل من بعده , وشيء من التفصيل في قصة موسى , وإشارة مجملة إلى قصة يونس . . ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها السورة .

أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة . وهو إن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها ; إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز .

لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة:

القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا .

والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة .

والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود . .

وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله ; وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق . وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه

وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي:

أن ما جاء به النبي [ ص ] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله - سبحانه - وهي تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك . والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم كذلك . والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة:

ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله - [ ص ]:

ألر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله , إنني لكم منه نذير وبشير . .(أم يقولون:افتراه ? قل:فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله , وأن لا إله إلا هو , فهل أنتم مسلمون ?).

وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم ; وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة:

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه , إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله , إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم .

(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم , أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ?). .

(ونادى نوح ربه فقال:رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال:يا نوح)(إنه ليس من أهلك , إنه عمل غير صالح , فلا تسألن ما ليس لك به علم , إني أعظك أن تكون من الجاهلين).

وإلى عاد أخاهم هودا قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . .

وإلى ثمود أخاهم صالحا , قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب . .

قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .

(وإلى مدين أخاهم شعيبا , قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . .).

(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا . . .).

وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها:

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء , ثم لا تنصرون). .

(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله , فاعبده وتوكل عليه , وما ربك بغافل عما تعملون).

وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة .

ولكي يدين الناس لله وحده بالربوبية , فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه , وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا ; وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير . . وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك .

في المقدمة يجيء:

ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه , ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون , إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها , ويعلم مستقرها ومستودعها , كل في كتاب مبين , وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا , ولئن قلت:إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا:إن هذا إلا سحر مبين . ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن:ما يحبسه ? ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم , وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . .

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار , وحبط ما صنعوا فيها , وباطل ما كانوا يعملون). .

وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات:

(إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ). .

وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها , فاستغفروه ثم توبوا إليه , إن ربي قريب مجيب . .

وفي التعقيب يجيء:

(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة . إن أخذه أليم شديد). .

(وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم , إنه بما يعملون خبير).

(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة , ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك , ولذلك خلقهم , وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين). . وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها . وهي لا تستهدف إثبات وجود الله - سبحانه - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر , كما أنها مقررة في نظام الكون . . فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف ; إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات ; وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة . إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك ; والخضوع لله وحده بلا منازع . ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره . كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا .

وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر , وتثبيتها في النفوس , وتعميقها في الكيان البشري , وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية , مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات . . في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة , وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها . .

يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب . . الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك , وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء . . والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة ; وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي , ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم , التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ; ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى . وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:

(. . . ألا تعبدوا إلا الله , إنني لكم منه نذير وبشير , وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله . وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم , وهو على كل شيء قدير). .

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها , وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار , وحبط ما صنعوا فيها , وباطل ما كانوا يعملون). .

أفمن كان على بينة من ربه , ويتلوه شاهد منه , ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به , ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده , فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك , ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم , ويقول الأشهاد:هؤلاء الذين كذبوا على ربهم , ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا , وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض , وما كان لهم من دون الله من أولياء , يضاعف لهم العذاب , ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم , وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى

ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع , هل يستويان مثلا ? أفلا تذكرون ?).

(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه , يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم , ولا تتولوا مجرمين). . .(فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم , ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ). .

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه , فاتبعوا أمر فرعون , وما أمر فرعون برشيد . يقدم قومه يوم القيامة , فأوردهم النار , وبئس الورد المورود . واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ! . . .

. . . الخ . . . الخ . .

ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ ; من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ; ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:

وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن , فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا , ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه , قال:إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه , ويحل عليه عذاب مقيم . حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن , وما آمن معه إلا قليل . وقال:اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . وهي تجري بهم في موج كالجبال , ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال:سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ! قال:لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم , وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . وقيل:يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء , وقضي الأمر واستوت على الجودي , وقيل:بعدا للقوم الظالمين . . . الخ . . . الخ . . . الخ . . .

ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء ; فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب , المتحدين للنذر في استهتار . . يرفع لهم صورأنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم ; وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم ; وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم ; وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:

ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن:ما يحبسه ? ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم . وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة , ثم نزعناها منه , إنه ليئوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن:ذهب السيئات عني , إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات , أولئك لهم مغفرة وأجر كبير . . .

ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة ; وصور المكذبين فيها ; ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله ; وما يجدونه يومئذ من خزي ; لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء:

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم , ويقول الأشهاد:هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ! ألا لعنة الله عى الظالمين ! الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا , وهم بالآخرة هم كافرون .أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض , وما كان لهم من دون الله من أولياء , يضاعف لهم العذاب , ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون , أولئك الذين خسروا أنفسهم , وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون).

(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة , ذلك يوم مجموع له الناس , وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه , فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ).

ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور ; بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه , ولا علمه المحيط ; ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا , وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق ; من حيث لا يشعرونSadإلى الله مرجعكم , وهو على كل شيء قدير . ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ! ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون , إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها , ويعلم مستقرها ومستودعها , كل في كتاب مبين). .

(إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم).

ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك , استعراض موكب الإيمان . بقيادة الرسل الكرام , على مدار الزمان . وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة , في صراحة وفي صرامة , وفي ثقة وطمأنينة ويقين . . وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة , والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة . ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام , ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان ; ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة . . يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء . .

وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة . .

. . والله المستعان . .

الوحدة الأولى:1 - 24 الموضوع:مقدمة حول العقيدة:الألوهية والنبوة والبعث وتهديد الكفار

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الوحدة

هذا الدرس الأول من السورة يمثل المقدمة - التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب - وهي تتضمن عرض الحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية:توحيد الدينونة لله الواحد بلا منازع , وعبادة الله وحده بلا شريك ; والاعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والابتلاء . . مع تعريف الناس بربهم الحق ; وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم ; وبيان حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , ومقتضاهما في حياة البشرية . وتوكيد الدينونة لله في الآخرة كالدينونة له سبحانه في الحياة الدنيا .

كذلك تتضمن هذه المقدمة بيانا لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ; كما تتضمن تسلية وترويحا للرسول [ ص ] في وجه العناد والتكذيب , والتحدي والمكابرة , التي كان رسول الله [ ص ] يواجهها في تلك الفترة العصيبة في حياة الدعوة بمكة , كما أسلفنا في التعريف بالسورة . مع تحديالمشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به , أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات - كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى - وتثبيت الرسول [ ص ] المؤمنة معه بهذا التحدي من الله وبذلك العجز من المشركين !

ومع هذا التحدي تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون . وهم الذين لا يطيقون أن تنزع منهم رحمة الله في الدنيا , ولا يصبرون على ابتلائه فيها وهو أيسر من عذاب الآخرة !

ثم يجسم هذا التهديد في مشهد من مشاهد القيامة ; يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب المشركين ; ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الأليم , المصحوب بالخزي والتشهير والتنديد والتأنيب . وفي الصفحة المقابلة من المشهد . . الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب والنعيم والتكريم . . ومشهد مصور للفريقين - على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير -Sadمثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع , هل يستويان مثلا ? أفلا تذكرون ?). .

الدرس الأول:1 - 4 تقرير مجموعة من الحقائق الإعتقادية

آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله , إنني لكم منه نذير وبشير , وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه , يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله , وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم . وهو على كل شيء قدير . .

إنها جملة الحقائق الاعتقاديه الأساسية:

إثبات الوحي والرسالة .

العبودية لله وحده بلا شريك .

جزاء الله في الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة .

جزاء الله في الآخرة للمكذبين , وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين .

قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود .

ألف . لام . راء :مبتدأ , خبره: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). . وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي يكذبون به . وهم عن شيء من مثله عاجزون !

(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). .

أحكمت آياته , فجاءت قوية البناء , دقيقة الدلالة , كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة , وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب , وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم . متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب , ومنسقة ذات نظام واحد . ثم فصلت . فهي مقسمة وفق أغراضها , مبوبة وفق موضوعاتها , وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه .

أما من أحكمها , ومن فصلها على هذا النحو الدقيق ? فهو الله سبحانه , وليس هو الرسول: (من لدن حكيم خبير). .

يحكم الكتاب عن حكمة , ويفصله عن خبرة . . هكذا جاءت من لدنه , على النحو الذي أنزل على الرسول , لا تغيير فيها ولا تبديل .

وماذا تضمنت ?

إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها:

(أن لا تعبدوا إلا الله). . فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة .

(إنني لكم منه نذير وبشير). . فهي الرسالة , وما تضمنته من نذارة وبشارة .

(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه). . فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية , إلى التوحيد والدينونة .

(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله). . فهو الجزاء للتائبين المستغفرين .

(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير). . فهو الوعيد للمتولين .

(إلى الله مرجعكم). . فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة .

(وهو على كل شيء قدير). . فهي المقدرة المطلقة والسلطان الشامل .

هذا هو الكتاب . أو هو آيات الكتاب . فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد تقريرها .

وما كان لدين أن يقوم في الأرض , وأن يقيم نظاما للبشر , قبل أن يقرر هذه القواعد .

فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ; وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف , أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم , وللوسطاء عند الله من خلقه ! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية - وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية - فيعبدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .

وما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي , يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة , لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة , إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .

وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ; ويستمتعوا بالكرامة الحقيقة التي أكرمهم بها الله , إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية , ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور .

وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام ; ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت , على ألوهية الله - سبحانه - للكون ; وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية:إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس , الذي يحكمهم بشرعه , ويصرفهم بأمره , ويدينهم بطاعته ?

لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس , ويذلونهم بهذا الاغتصاب لسلطان الله , ويجعلونهم عبيدا لهم من دون الله . وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائما لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله سبحانه . .

والله - سبحانه - غني عن العالمين . لا ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة . ولايزيد في ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين . . ولكن البشر - هم أنفسهم - الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده ; وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده , ويتحررونمن العبودية للعبيد . . ولما كان الله - سبحانه - يريد لعباده العزة والكرامة والاستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده . وليخرجوهم من عبادة العبيد . . لخيرهم هم أنفسهم . . والله غني عن العالمين .

إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده , وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله . ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان !

والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده . والربوبية تعني القوامة على البشر , وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله , لا من عند أحد سواه .

وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه:

(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير:ألا تعبدوا إلا الله). .

وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم .

والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها وكل شك في أن هذا من عند الله , كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير . والذين يظنون أنها من عند محمد - مهما أقروا بعظمة محمد - لا يمكن أن تنال من نفوسهم الاحترام الملزم , الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير . . إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله , وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين , فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد .

كما إن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده الله من البشر . كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد , هو هذا المصدر . وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولا , ويشرع للناس شرعا , ثم يزعم أنه شرع الله وأمره ! بينما هو يفتريه من عند نفسه !

وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع , ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . . ثم يقول:هذا من عند الله !!!

وما يحسم هذه الفوضى وهذا الاحتيال على الناس باسم الله , إلا أن يكون هناك مصدر واحد - هو الرسول - لقول الله .

والاستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه , وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب , والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين , فهما الترجمة العملية للتوبة , وبهما يتحقق وجودها الفعلي , الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام , بينما هو لا يدين لله وحده , ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه ; فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .

والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة , وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب , اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !

والاعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة , وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة ; ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه ; فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر , الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإنغلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة , ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقا للثواب في الآخرة فحسب - كما يعتقد بعض الناس - إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته , إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه , وكرمه على كثير من خلقه , ورفعه عن درك الحيوان ; لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ; ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .

ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة , بعد توحيد الدينونة لله , وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الاستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح , من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج . والجزاء المشروط:

(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله). .

والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .

إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين , المستغفرين التائبين , العاملين في الحياة . . وضيقا عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن ?

وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين !

ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع , وننظر إليها في محيطها الشامل العام , ولا نقتصر منها على مظهر عابر .

إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح , قائم على الإيمان بالله , والدينونة له وحده , وإفراده بالربوبية والقوامة , وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة ; وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب , فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله , القائم على العدل بين الجهد والجزاء .

على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا , حتى لو ضيق عليهم في الرزق , وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم , كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة , وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالا وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة , والاتصال بالله , والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير ; ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .

ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلا على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا , والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد , ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله , المضيق عليهم في الرزق , وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله .
من الاية 3 الى الاية 4

وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

(ويؤت كل ذي فضل فضله). .

خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة , على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا ; وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا , واتصالا بالله وهو يبذل الفضل عملا أو مالا متجها به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .

(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير). .

هو عذاب يوم القيامة . لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين . فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود . ويقوي هذا ما بعده:

(إلى الله مرجعكم).

وإن كان المرجع إلى الله في الدنيا والآخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة . ولكن جرى التعبير القرآني على أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا . .

(وهو على كل شيء قدير). .

وهذه كذلك تقوي هذا المعنى , لأن التلويح بالقدرة على كل شيء , مناسب للبعث الذي كانوا يستبعدونه ويستصعبونه !

الدرس الثاني:5 - 6 استخفاء الكفار من الرسول وشمول علم الله بهم

وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . . يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات , عندما يقدمها لهم النذير البشير , ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي . ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم ; وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق:

(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون , إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها , ويعلم مستقرها ومستودعها . كل في كتاب مبين). .

والآيتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره !

ويا لها من رهبة غامرة , وروعة باهرة , حين يتصور القلب البشري حضور الله - سبحانه - وإحاطة علمه وقهره ; بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله:

(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون . إنه عليم بذات الصدور). .

ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله [ ص ] يسمعهم كلام الله ; فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام . . وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان !

ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة , والله , الذي أنزل هذه الآيات , معهم حين يستخفون وحين يبرزون . ويصور هذا المعنى - على الطريقة القرآنية - في صورة مرهوبة , وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم . حين يأوون إلى فراشهم , ويخلون إلى أنفسهم , والليل لهم ساتر , وأغطيتهم لهم ساتر . ومعذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر . يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون:

(ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون). .

والله يعلم ما هو أخفى . وليست أغطيتهم بساتر دون علمه . ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد . فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه , ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها , فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه !

(إنه عليم بذات الصدور). .

عليم بالأسرار المصاحبة للصدور , التي لا تفارقها , والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه , أو المالك ملكه . . فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور . ومع ذلك فالله بها عليم . . وإذن فما من شيء يخفى عليه , وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع .

(وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقره
بواسطة (488 نقاط)

اسئلة مشابهه

0 إجابة
175 مشاهدة
سُئل نوفمبر 3، 2019 بواسطة مجهول
0 إجابة
144 مشاهدة
سُئل يونيو 8، 2019 بواسطة مجهول
0 إجابة
87 مشاهدة
سُئل يناير 17، 2019 بواسطة محمود
0 إجابة
126 مشاهدة
سُئل نوفمبر 4، 2018 بواسطة الدين
2 إجابة
844 مشاهدة
سُئل نوفمبر 16، 2017 بواسطة مجهول
0 إجابة
141 مشاهدة
سُئل نوفمبر 16، 2017 بواسطة مجهول
1 إجابة
287 مشاهدة
سُئل نوفمبر 16، 2017 بواسطة مجهول
2 إجابة
772 مشاهدة
سُئل أكتوبر 15، 2017 بواسطة مجهول
0 إجابة
150 مشاهدة
سُئل أكتوبر 14، 2017 بواسطة مجهول
0 إجابة
69 مشاهدة